علمتني الكشفية ...
بقلم : رامي منزلجي
المفوض الدولي لكشاف سورية
في مدرستي الابتدائية في ذلك الزمن البعيد .. ذلك الزمن السعيد .. زمن الطفولة والفرح والانطلاق .. حيث لم يكن لانطلاقتنا حدوداً إلا السماء . زمن حارتنا القديمة المرتمية عند أطراف المدينة , وشارعنا الذي كان آخر حدود العمران, وبعده البساتين والحقول, وأفق بعيد لا يقطعه سوى منظر الجبال الضبابية الممتدة في سلسلة عظيمة على الساحل الشرقي للمتوسط .
زمن رفاق الحي وزملاء المدرسة . زمن همومنا الصغيرة وآمالنا الوثابة الرحبة ,التي كانت تجوب بنا الآفاق وتحملنا إلى عوالم سحرية من الخيال . في ذلك الزمن الجميل الذي أحبه وأحن إليه . وفي مدرستي التي كانت نموذجية في ذلك الوقت بساحتها الواسعة وصالاتها المتعددة ومسرحها الكبير وصفوفها الرحبة ومقاعدها الخشبية التي ملأناها من خربشاتنا وضحكاتنا وعمرنا الغض الصغير. في ذلك الزمن كان لي أول لقاء بالكشفية .
في مدرستي هذه معلم يتولى تدريس صف آخر غير صفي . طويل القامة, أسمر اللون, ضخم الجثة, قاسي الملامح , يضع نظارة طبية داكنة اللون تخفي عنا عينيه . وكنت كما غيري من التلاميذ نخشاه, وعندما يقوم بجولاته في باحة المدرسة نحاول تجنب عصاه التي تطال كل مخالف أو مشاغب .
كنت في الصف الخامس عندما تشكلت في المدرسة فرقة كشفية بما كان يعرف بالكشاف المدرسي . وصادف أن يكون هذا المعلم هو المكلف بقيادة هذه الفرقة . وقد قام باختيار التلاميذ ليكونوا كشافين في فرقته . وكان اسمي بالصدفة من بين المختارين , ولست أدري على أي أساس تم الاختيار .
سرعان ما تغيرت تلك الصورة السلبية التي كانت مرسومة في ذهني عن ذاك المعلم , عندما انتسبت إلى الفرقة , وتعرفت إليه عن قرب, وعرفت أن مظهره القاسي يخفي شخصية محببة ولطيفة .
كان يحدثنا عن الكشفية ومبادئها ونشاطاتها وألبستها المميزة ومخيماتها بين الغابات والأدغال , والغرائب التي تنتظرنا فبها , فتحلق بنا المخيلة في آفاق واسعة من المغامرات و البطولات الدونكيشوتية فنظننا سنكون أنداداً لطرزان أو للسندباد البحري . وكانت هي المرات الأولى التي أسمع فيها بكلمة كشاف .
بعد أيام قليلة أعلن قائد الفرقة عن قيامها برحلة كشفية سيراً على الأقدام .وحدد لها موعداً يوم الجمعة القادم. كانت فرحتي ورفاقي لا تقدر بثمن فروح المغامرة تملئ نفوسنا الصغيرة وخيالات المجازفة تعشش في أحلامنا وعقولنا .
تدبّر لنا على عجل لباس كشفي من المدرسة . وأذكر بفرح عظيم روعة ارتداءه لأول مرة في حياتي .
في نهاية الدوام حملت اللباس الكشفي معي إلى البيت وكأنني أحمل ثروة بين يدي . وجربته في البيت عدة مرات, وتأملته طويلاً وحرصت على توضيبه ووضعه قرب سريري .
لم أنم ليلتها وأنا أحلم بالرحلة , تملؤني خيالات عن المغامرات والمخاطر والعقبات التي تنتظرني بالغد وكيف أتخطاها بقوة مزهواً بلباسي الكشفي .
في الصباح الباكر استيقظت قبل الجميع , وارتديت ملابس الكشاف ونزعت حبل الغسيل عن الشرفة ولففته بعناية لأن المعلم طلب منا إحضار حبل للمواقف الصعبة ولاستعماله عند الضرورة .وضعت الحبل داخل حقيبة صغيرة أعدتها لي الوالدة . وحمّلتني معها توصياتها وتنبيهاتها ودعاؤها وملاحظات كثيرة بأن أحسن التصرف وألا أبتعد عن الجماعة وأن أطيع المعلم وأبقى مهذباً ونظيفاً .
وشعرت حينها بضخامة المهمة التي أنا بصددها , وغموض المغامرة التي تنتظرني . ومع ذلك حافظت على كل توصيات الوالدة إلا موضوع النظافة , حيث تلطخت ملابس الكشاف بالطين وترك عليها العشب الأخضر بقعاً ملونة , وتعمشق في جرابي الطويل بقايا أعشاب وأشواك . أما الحذاء فلم يعد لونه معروفاً .
تجمعنا باكراً في المدرسة , وكانت المرة الأولى التي أذهب فيها إلى المدرسة يوم الجمعة .نسمات الصباح الباكر تلسعنا بلطف . ومنظر السماء المرقطة بغيوم الصباح تضفي على المكان جواً رائعاً. كنا حوالي عشرين تلميذاً أو أكثر بلباسنا الكشفي الموحد وحقائبنا الصغيرة وأحلامنا الكبيرة . فرحين جداً رغم بعض الرهبة مما ينتظرنا من مغامرات , وكيف سنواجه وحوش الغابة وحيواناتها المفترسة . ونمضي سيراً على الأقدام في طرقات لا نعرفها , والى أرض تخيلناها غابات الأمازون .
بدأت الرحلة إلى مصب نهر قريب من المدينة يبعد حوالي 7 كم. اصطففنا في رتل أحادي أمام المدرسة وقام المعلم بتوجيه ملاحظاته لنا ونبهنا إلى ضرورة الحفاظ على رتلنا الأحادي والسير على طرف الطريق .
اتجهنا أول الأمر نحو الشاطئ الجنوبي للمدينة ثم انحدرنا في طريق فرعي محاذ للبحر وبعده انعطفنا يسارً لنمر ببوت صغيرة متواضعة تقطعها البساتين القريبة من الشاطئ .
وأصبح ورائنا منظر البيوت المتراكبة فوق الهضبة التي تشكل الطرف الجنوبي للمدينة. سرنا برتلنا الأحادي يتقدمنا المعلم وتلميذ أكبر منا سناً يحمل علماً عليه ماعرفناه بشارة الكشاف . وعيون السكان تراقبنا باستغراب وتعجب . تبعنا بعض الصبية من بعيد لمسافة محددة ثم عادوا أدراجهم .
طريق ترابي رملي ضيق تلونه أحياناً ظلال الأشجار , وتتركه تارة أخرى تحت نور الشمس اللامع .
بعد مسير شاق طويل خلناه لن ينتهي أبداً, وصلنا مصب النهر, حيث غابة صغيرة من أشجار الصنوبر تبدع مساحة خضراء ظليلة . كانت ملجأً رائعاً لنا في وقت الظهيرة . والنهر ينهي رحلته الطويلة بين سهول اللاذقية وجبالها ويرتمي متعباً مثلنا في أحضان البحر . شعرنا حينها بأننا وصلنا إلى آخر العالم .
علمنا القائد أثناء الرحلة بعض المهارات الكشفية . واستمتعنا كثيراً بتتبع الأثر. وصنعنا حمالة من عصاتين وغطاء . ولعبنا وعدونا وضحكنا وكانت سعادتنا لا تتسع لها مساحة الغابة الصغيرة .
ولن أنسى أبداً تجربتنا الرائعة في كيفية شرب ماء النهر بعد تعقيمه . ملأنا وعاءاً معدنياً من ماء النهر
وقام القائد بإشعال النار بعود ثقاب واحد . وضعنا الإناء عليها وانتظرنا حتى غلى الماء وانتظرناه طويلاً جداً حتى يبرد ثم شربنا ه وهو نصف دافئ , وأصر كل واحد منا على الشرب لتجربة طعمه وكأنه ماء من المريخ .
مر الوقت سريعاً جدا ومالت الشمس بحركة قوسية نحو الأفق الغربي . ومعها تحولت كل الظلال من الغرب إلى الشرق . شارف يومنا على نهايته . وبدأنا رحلة العودة ..
كانت هذه الرحلة العجيبة الرائعة , هي أول وآخر نشاط لفرقتنا الفتية . فقد انتقل المعلم من مدرستنا وانتهت معه الفرقة الكشفية . رغم وعود مدير المدرسة بأنه سيعاود تشكيلها من جديد .
أنهيت المرحلة الابتدائية , ولم تعاود المدرسة تشكيل فرقة كشفية أخرى . إلا أن هذه المغامرة اليتيمة أشعلت في داخلي حباً عظيماً للكشفية . ازداد وتعمق في كل يوم ورافقني طيلة حياتي , التي بلغت فيها من العمر عتياّ ولا تزال تسكنني روح المغامرة الطفولية الرائعة .
شكرا للصدفة التي أغنت حياتي ولونتها بأروع الألوان. وأسفي على التلاميذ الذين لم يخترهم المعلم في فرقته لما خسروه من تجارب رائعة عشتها في حياتي الكشفية الطويلة .